كل سورة من سور القرآن الكريم لها وحدة موضوع وكل آيات السورة تأتي لتصب في هذا الموضوع. ,وفى هذا الموضوع سأحاول دراسة سور القرآن الكريم كل على حدة لنحدد اهداف ومحاور كل سورة ليسهل علينا فهمها وتدبر معانيها وحفظها وهدفها وما هو مطلوب منا عمله لأن هذا القرآن جمع أحكام العبادة والتشريع والوعظ من خلال قصص الأمم السابقة حتى نأخذ منها العبر التي تفيدنا في تطبيق منهج الله تعالى حتى نحقق الهدف الذي من أجله خلقنا (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون). ولو أننا جمعنا الرسائل القرآنية في كل سورة لحصلنا على منهج متكامل راقي ينقل من يعمل به من الظلمات إلى النور.
سورة الفاتحة
هدف السورة: شاملة لأهداف القرآن سميت الفاتحة وأم الكتاب والشافية والوافية والكافية والأساس والحمد والسبع المثاني والقرآن العظيم كما ورد في صحيح البخاري أن النبي r قال لأبي سعيد بن المعلّى: (لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) وقد وصفها الله تعالى بالصلاة فما هو سر هذه السورة؟
سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع بالاجماع وسميت الفاتحة لافتتاح الكتاب العزيز بها فهي اول القرآن ترتيبا لا تنزيلا وهي على قصرها حوت معاني القرآن العظيم واشتملت مقاصده الأساسية بالاجمال فهي تتناول أصول الدين وفروعه، العقيدة، العبادة، التشريع، الاعتقاد باليوم الآخر والايمان بصفات الله الحسنى وافراده بالعبادة والاستعانة والدعاء والتوجه اليه جلّ وعلا بطلب الهداية الى الدين الحق والصراط المستقيم والتضرع اليه بالتثبيت على الايمان ونهج سبيل الصالحين وتجنب طريق المغضوب عليهم والضآلين وفيها الاخبار عن قصص الامم السابقين والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه وغير ذلك من مقاصد وأهداف فهي كالأم بالنسبة لباقي السور الكريمة ولهذا تسمى بأم الكتاب. إذن اشتملت سورة الفاتحة على كل معاني القرآن فهدف السورة الاشتمال على كل معاني واهداف القرآن.
والقرآن نص على : العقيدة والعبادة ومنهج الحياة. والقرآن يدعو للاعتقاد بالله ثم عبادته ثم حدد المنهج في الحياة وهذه نفسها محاور سورة الفاتحة.
العقيدة: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين
العبادة: إياك نعبد وإياك نستعين
مناهج الحياة: إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضآلين.
وكل ما يأتي في كل سور وآيات القرآن هو شرح لهذه المحاور الثلاث.
تذكر سورة الفاتحة بأساسيات الدين ومنها:
شكر نعم الله (الحمد لله)،
والاخلاص لله (إياك نعبد واياك نستعين)،
الصحبة الصالحة (صراط الذين أنعمت عليهم)،
وتذكر أسماء الله الحسنى وصفاته (الرحمن، الرحيم)،
الاستقامة (إهدنا الصراط المستقيم)،
الآخرة (مالك يوم الدين) ويوم الدين هو يوم الحساب.
أهمية الدعاء،
وحدة الأمة (نعبد، نستعين) ورد الدعاء بصيغة الجمع مما يدل على الوحدة ولم يرد بصيغة الافراد.
وسورة الفاتحة تعلمنا كيف نتعامل مع الله فأولها ثناء على الله تعالى (الحمد لله رب العالمين) وآخرها دعاء لله بالهداية (إهدنا الصراط المستقيم) ولو قسمنا حروف سورة الفاتحة لوجدنا أن نصف عدد حروفها ثناء (63 حرف من الحمد لله الى اياك نستعين) ونصف عدد حروفها دعاء (63 حرف من اهدنا الصراط الى ولا الضآلين) وكأنها اثبات للحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فاذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله عز وجل: حمدني عبدي، واذا قال: الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: أثنى علي عبدي، واذا قال : مالك يوم الدين، قال عز وجل: مجدني عبدي، وقال مرة فوض الي عبدي، فاذا قال: اياك نعبد واياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) فسبحان الله العزيز الحكيم الذي قدّر كل شيء. وقد سئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لماذا يقف بعد كل آية من آيات سورة الفاتحة فأجاب لأستمتع برد ربي.
إذن سورة الفاتحة تسلسل مبادئ القرآن (عقيدة، عبادة، منهج حياة) وهي تثني على الله تعالى وتدعوه لذا فهي اشتملت على كل اساسيات الدين.
أنزل الله تعالى 104 كتب وجمع هذه الكتب كلها في 3 كتب (الزبور، التوراة والانجيل) ثم جمع هذه الكتب الثلاثة في القرآن وجمع القرآن في الفاتحة وجمعت الفاتحة في الآية (إياك نعبد واياك نستعين).
وقد افتتح القرآن بها فهي مفتاح القرآن وتحوي كل كنوز القرآن وفيها مدخل لكل سورة من باقي سور القرآن وبينها وبين باقي السور تسلسل بحيث انه يمكن وضعها قبل أي سورة من القرآن ويبقى التسلسل بين السور والمعاني قائما.
لطائف سورة الفاتحة:
آخر سورة الفاتحة قوله تعالى (غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) وجاءت سورة البقرة بعدها تتحدث عن المغضوب عليهم (بني إسرائيل) وكيف عصوا ربهم ورسولهم وجاءت سورة آل عمران لتتحدث عن الضآلين (النصارى)
وآخر كلمات سورة الفاتحة الدعاء جاءت مرتبطة ببداية سورة البقرة (هدى للمتقين) فكأن (اهدنا الصراط المستقيم) في الفاتحة هو الهدى الذي ورد في سورة البقرة.
بداية السورة (الحمد لله رب العالمين) وهذه أول كلمات المصحف، يقابلها آخر كلمات سورة الناس (من الجنة والناس) ابتدأ تعالى بالعالمين وختم بالجنة والناس بمعنى أن هذا الكتاب فيه الهداية للعالمين وكل مخلوقات الله تعالى من الجنة والناس وليس للبشر وحدهم او للمسلمين فقط دون سواهم.
أحكام التجويد في سورة الفاتحة جاءت ميسرة وليس فيها أياً من الأحكام الصعبة وهذا والعلم عند الله لتيسير تلاوتها وحفظها من كل الناس عرباً كانوا او عجما.
والله تعالى هو الرحمن الرحيم وهو مالك يوم الدين وعلينا أن نحذر عذابه يوم القيامة ويوم الحساب.
والناس هم بحاجة الى معونة الله تعالى لعبادته فلولا معونته سبحانه ما عبدناه (إياك نعبد وإياك نستعين)
وندعو الله تعالى للهداية إلى الصراط المستقيم (اهدنا الصراط المستقيم) وهذا الصراط المستقيم ما هو إلا صراط النبي r وصراط السلف الصالح من الصحابة والمقربين (صراط الذين أنعمت عليهم) وندعوه أن يبعدنا عن صراط المغضوب عليهم والضآلين من اليهود والنصارى وكل الكفار الين يحاربون الله ورسوله وr والاسلام والمسلمين في كل زمن وعصر (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)
الآن وقد عرفنا أهداف سورة الفاتحة التي نكررها 17 مرة في صلاة الفريضة يومياً ما عدا النوافل لا شك اننا سنستشعر هذه المعاني ونتدبر معانيها ونحمد الله تعالى ونثني عليه وندعوه بالهداية لصراطه المستقيم.
سورة البقرة هدف السورة: الاستخلاف في الأرض ومنهجه
سورة البقرة وآياتها (286 آية) هي أول سورة نزلت في المدينة بعد هجرة الرسول ومع بداية تأسيس الامة الاسلامية (السور المدنية تعنى بجانب التشريع) وأطول سور القرآن وأول سورة في الترتيب بعد الفاتحة. وفضل سورة البقرة وثواب قراءتها ورد في عدد من الأحاديث الصحيحة منها: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما) وفي رواية (كأنهما غمامتان او ظلتان) وعن رسول الله أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" أخرجه مسلم والترمذي. وقال رسول الله : "اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة" أي السحرة، رواه مسلم في صحيحه.
هدف السورة: الإستخلاف في الأرض (البشر هم المسؤولون عن الأرض) ولذا جاء ترتيبها الاول في المصحف. فالأرض ملك لله عز وجل وهو خلقها وهو يريد ان تسير وفق إرادته فلا بد أن يكون في الأرض من هو مسؤول عنها وقد استخلف الله تعالى قبل آدم الكثير من الأمم وبعد آدم أيضاً فمنهم من فشل في مهمة الاستخلاف ومنهم من نجح. لذا عندما نقرأ السورة يجب علينا أن نستشعر مسؤولية في خلافة الارض.
كما ذكرنا فإن هدف السورة هو الاستخلاف في الأرض، وسورة البقرة هي أول سور المصحف ترتيباً وهي أول ما نزل على الرسول في المدينة مع بداية تأسيس وتكوين دولة الإسلام الجديدة فكان يجب أن يعرف المسلمون ماذا يفعلون ومما يحذرون. والمسؤولية معناها أن نعبد الله كما شاء وأن نتبع أوامره وندع نواهيه. والسورة مقسمة إلى أربعة أقسام: مقدمة – القسم الأول – القسم الثاني – خاتمة. وسنشرح هدف كل قسم على حدة. المقدمة: وفيها وصف أصناف الناس وهي تقع في الربع الأول من السورة من الآية (1 – 29)
الربع الأول: أصناف الناس:
1-المتقين (آية 1 – 5)
2-الكافرين (آية 6 – 7)
3-المنافقين (آية 8 – 20) والاطناب في ذكر صفات المنافقين للتنبيه الى عظيم خطرهم وكبير ضررهم لأنهم يظهرون الايمان ويبطنون الكفر وهم أشد من الكافرين.
ثم ننتقل الى القسم الأول للسورة وهو باقي الجزء الأول وفيه هذه المحاور: الربع الثاني: استخلاف آدم في الأرض (تجربة تمهيدية ) (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (الآية 30) واللطيف أنه سبحانه أتبع هذه الآية بـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (آية 31) [size=21]وهذه الآية محورية تعني أنه إذا أردت أن تكون مسؤولا عن الأرض يجب أن يكون عندك علم لذا علّم الله تعالى الاسماء كلها وعلّمه الحياة وكيف تسير وعلّمه تكنولوجيا الحياة وعلّمه أدوات الاستخلاف في الأرض (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)(آية 22). وهذا إرشاد لأمة الاسلام إن أرادوا ان يكونوا مسؤولين عن الأرض فلا بد لهم من العلم مع العبادة فكأن تجربة سيدنا آدم هي تجربة تعليمية للبشرية بمعنى وكيفية المسؤولية عن الأرض. ثم جاءت الآية (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ آية 36 ترشدنا أن النعمة تزول بمعصية الله تعالى. وتختم قصة آدم بآية مهمة جداً (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) آية 38 وهي تؤكد ما ورد في أول سورة البقرة (هدى للمتقين) ومرتبطة بسورة الفاتحة (إهدنا الصراط المستقيم). الربع الثالث الى الربع السابع: نموذج فاشل من الاستخلاف في الأرض:
قصة بني اسرائيل الذين استخلفوا في الأرض فأفسدوا (لآية 40) (يا بني اسرائيل اذكروا تعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين).
وأول كلمة في قصة بني اسرائيل (أني فضلتكم على العالمين) اي أنهم مسؤولون عن الأرض، وأول كلمة في قصة آدم u (إني جاعل في الأرض خليفة) أي مسؤول عن الارض، وأول كلمة في قصة بني اسرائيل (واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) وأول كلمة في الفاتحة (الحمد لله رب العالمين) والحمد يكون على النعم. فذكر نعم الله تعالى واستشعارها هي التي افتتح بها القرآن الكريم والتي افتتحت بها قصة بني اسرائيل.
تعداد نعم الله تعالى على بني اسرائيل: الآيات 49 – 50 – 51 - 52
عرض أخطاء بني اسرائيل (بهدف اصلاح الامة الاسلامية) الآيات 55 – 61
وفي عرض أخطاء بني اسرائيل التي وقعوا فيها توجيه لأمة محمد r واصلاحها ومن هذه الأخطاء: أن بني اسرائيل لم يرضوا تنفيذ شرع الله تعالى – المادية – الجدل الشديد – عدم طاعة رسل الله – التحايل على شرع الله – عدم الإيمان بالغيب.
وقصة البقرة باختصار أن رجلا من بني اسرائيل قتل ولم يعرف قاتله فسألوا سيدنا موسى فأوحى الله تعالى اليه أن يأمرهم بذبح بقرة لها صفات معينة ويضربوا الميت بجزء من البقرة المذبوحة فيحيا باذن الله تعالى ويدل على قاتله (الآيات 69 – 71) وهذا برهان مادي لبني اسرائيل وغيرهم على قدرة الله جلّ وعلا في احياء الخلق بعد الموت. وذلك أن بنو اسرائيل كانوا ماديين جداً ويحتاجون الى دليل مادي ليصدقوا ويؤمنوا. وهذه السورة تقول لأمة محمد r أنهم مسؤولون عن الأرض وهذه أخطاء الامم السابقة قلا يقعوا فيها حتى لا ينزل عليهم غضب الله تعالى ويستبدلهم بأمم أخرى. وتسمية السورة بهذا الاسم (البقرة) إحياء لهذه المعجزة الباهرة وحتى تبقى قصة بني اسرائيل ومخالفتهم لأمر الله وجدالهم لرسولهم وعدم إيمانهم بالغيب وماديتهم وما أصابهم جرّاء ذلك تبقى حاضرة في أذهاننا فلا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء أدت الى غضب الله تعالى عليهم. وهذه القصة تأكيد على عدم ايمان بني اسرائيل بالغيب وهو مناسب ومرتبط بأول السورة (الذين يؤمنون بالغيب) وهي من صفات المتقين. وفي قصة البقرة أخطاء كثيرة لأنها نموذج من الذين أخطأوا وهي امتحان من الله تعالى لمدى ايماننا بالغيب.
وتتابع أخطاء بني اسرائيل الى الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) آية 104 وكان العرب يفهمون هذه الكلمة (راعنا) على أنها عادية ولكنها تعني السباب عند بني اسرائيل فأراد الله تعالى ان يتميز المسلمون عن اليهود حتى بالمصطلحات اللفظية وأمرهم أن يقولوا (انظرنا).
الربع الثامن: نموذج ناجح للإستخلاف في الأرض (قصة سيدنا ابراهيم) وهي آخر تجربة ورد ذكرها في السورة. اولا ابتلى سبحانه آدم في أول الخلق (تجربة تمهيدية) ثم بني اسرائيل فكانت تجربة فاشلة ثم ابتلى ابراهيم u فنجح (وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) وفي هذه الآية اثبات أن الاستخلاف في الارض ليس فيه محاباة فالذي يسير على منهج الله وطاعته يبقى مسؤولا عن الأرض والذي يتخلى عن هذا المنهج لا ينال عهد الله (لا ينال عهدي الظالمين). امتحن الله تعالى سيدنا ابراهيم u بكلمات فلما أتمهن قال تعالى (اني جاعلك للناس اماما) ثم دعا ابراهيم ربه أن يبعث في هذه الأمة رسولا منهم (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) آية 136. وفي نهاية قصة سيدنا ابراهيم الآية (قولوا آمنا بما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم ) جاء ذكر الانبياء كلهم وهذا مرتبط بآية سورة الفاتحة (صراط الذين أنعمت عليهم) فكأنما كل هؤلاء المذكورين في آية سورة البقرة هم من الذين أنعم الله تعالى عليهم والذين يجب أن نتبع هداهم والصراط الذي اتبعوه.
وملخص القول في القسم الاول من السورة أن بداية القصص الثلاث : قصة آدم (إني جاعل في الارض خليفة) وقصة بني اسرائيل (واني فضلتكم على العالمين) وقصة سيدنا ابراهيم u (إني جاعلك للناس اماما) هذه القصص الثلاث بدايتها واحدة وهي الاستخلاف في الارض وعلينا نحن امة المسلمين أن نتعلم من تجارب الذين سبقونا وأن نستشعر الأخطاء التي وقعت فيها الامم السابقة ونعرضها على انفسنا دائما لنرى ان كنا نرتكب مثل هذه الاخطاء فتوقف عن ذلك ونحذو حذو الامم السابقة الذين نجحوا في مهمة الاستخلاف في الارض كسيدنا ابراهيم u. وفي القصص الثلاث ايضاً اختبار نماذج مختلفة من الناس في طاعة الله تعالى فاختبار سيدنا آدم u كان في طاعة الله (أكل من الشجرة ام لا) واختبار بني اسرائيل في طاعتهم لأوامر الله من خلال رسوله واختبار سيدنا ابراهيم u بذبح ابنه اسماعيل ايضا اختبار طاعة لله تعالى (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات). وخلاصة أخرى أن الآمة مسؤولة عن الارض والفرد أيضا مسؤول وللقيام بهذه المسؤولية فهو محتاج للعبادة وللأخذ بالعلم والتكنولوجيا. القسم الثاني من السورة (الجزء الثاني): أوامر ونواهي للأمة المسؤولة عن الأرض
وفي هذا القسم توجيه للناس الذين رأوا المناهج السابقة وتجارب الامم الغابرة يجب أن يتعلموا من الأخطاء وسنعطيكم أوامر ونواهي كي تكونوا مسؤولين عن الارض بحق وتكونوا نموذجا ناجحا في الاستخلاف في الارض. وينقسم هذا القسم الى:
الربع الأول: تغيير القبلة[/SIZE](وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ آية 144-143) لماذا جاءت الآية في تغيير القبلة من بيت المقدس الى بيت الله الحرام؟ المسلمون أمة أرادها الله تعالى ان تكون متميزة وقوله تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) فبما انكم ستكونون شهداء على الناس لا بد من ان تكونوا متميزين فلا استخلاف بدون تميز لذا كان لا بد من أن تتميزالأمة المسلمة:
بقبلتها (بدون تقليد أعمى لغيرها من الامم السابقة) آية 104
بمصطلحاتها (انظرنا بدل راعنا) آية 144
بالمنهج (اهدنا الصراط المستقيم) سورة الفاتحة
الربع الثاني: التوازن في التميز (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) آية 158. وسبب هذه الآية أن الصحابة لما نزلت آيات تغيير القبلة ليتميزوا عن الكفار اعتبروا ان الصفا والمروة من شعائر الكفار وعليهم ان يدعوه ايضا حتى يكونوا متميزبن لكن جاءت الآية من الله تعالى ان ليس على المسلمين أن يتميزوا عن كل ما كان يفعله الكفار فلا جناح عليهم ان يطوفوا بالصفا والمروة لأنها من شعائر الله وليس فيه تقليد للأمم السابقة. إذن علينا أن نبتعد عن التقليد الاعمى لمن سبقنا لكن مع الابقاء على التوازن اي اننا امة متميزة لكن متوازنة.
الربع الثالث:عملية اصلاح شامل
الآية (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ آية 177) فيها اشياء كثيرة. فبعد أن اطاعوا وتميزوا مع الحفاظ على التوازن كان لا بد لهم من منهج اصلاحي شامل (الايمان بالله، بالغيب، ايتاء المال، اقامة الصدقة، ايتاء الزكاة، الوفاء بالعهود، الصابرين ، الصادقين، المتقين) وكأنما الربعين الاول والثاني كانوا بمثابة تمهيد للأمة طاعة وتميز بتوازن واصلاح شامل وتبدأ من هنا الآيات بالاوامر والنواهي المطلوبة.
الحج وأحكامه (196 - 200) لماذا جاء آيات أحكام الحج بعد الجهاد؟ لأن الحج هو أعلى تدريب على القتال واعلى مجاهدة النفس. وأيات الحج بالتفصيل وردت في سورة البقرة استجابة لدعوة سيدنا ابراهيم في الربع الثامن من القسم الاول (وأرنا مناسكنا) آية 128 ونلاحظ أن سورة البقرة اشتملت على أركان الاسلام الخمسة : الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج ولم تفصّل هذه الاركان في القرآن كما فصّلت في سورة البقرة.
الاسلام منهج متكامل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) آية 208 والسلم هو الاسلام وهو توجيه للمسلمين ان لا يكونوا كبني اسرائيل الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) آية 85 وأن يأخذوا الدين كاملا غير مجتزأ فكأنما يوجهنا الله تعالى في سياق السورة الى الطاعة والتميز ثم يعطينا بعض عناصر المنهج ثم يأمرنا أن نأخذ الاسلام كافة و لا نفعل كما فعل بنو اسرائيل ثم يكمل لنا باقي المنهج. وهذ الآية (ادخلوا في السلم كافة كان لا بد من وجودها في مكانها بعد الطاعة والتميز واتباع الاوامر والنواهي والجهاد والانفاق للحفاظ على المنهج ثم الاخذ بالدين كافة ثم التقوى التي تجعل المسلمين ينفذون.
الربع : اكتمال المنهج (الآيات 219 – 242)
وفيه اكمال المنهج من أحكام الاسرة من زواج وطلاق ورضاعة وخطبة وخلع وعدة وغيرها وسياق كل ذلك التقوى ونلاحظ نهاية الآيات بكلمة تقوى او مشتقاتها. وقد تأخرت آيات احكام الاسرة عن احكام الصيام لأن الله تعالى بعدما أعد المسلمين بالتقوى وبطاعته جاءت أحكام الاسرة التي لا ينفذها إلا من اتقى وأطاع ربه فالمنهج الاخلاقي والعملي متداخلين في الاسلام. لا ينفع أن يبدأ باحكام الاسرة ما لم يكن هنالك تقوى في النفوس البشرية.
الربع : قصة طالوت وجالوت (آية 246 – 251) وهي قصة أناس تخاذلوا عن نصرة الدين وجاء ذكرها في موضعها لأن المنهج يجب أن يحافظ عليه ولا يتم ذلك إلا بوجود أناس يحافظون عليه.
آية الكرسي (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (آية 255) موضعها في السورة مهم جدا وتدلنا الى أنه اذا اردنا تطبيق المنهج يجب ان نستشعر قدرة الله وعظمته وجلاله (الله لا إله الا هو الحي القيوم) فالمنهج ثقيل ويتطلب الكثير من الجهد لكنه يستحق التطبيق لأنه منهج الله تعالى (الله لا اله إلا هو)
ثم تأتي بعدها آية غاية في كرم الله وعدله (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أمر من الله بان لا نكره أحدا على الدين لماذا؟ لأن الدين واضح معناه بعد قوله (الله لا اله الا هو) فالذي لا يعرف معنى (الله لا اله إلا هو) ولا يستشعر عظمة هذا المعنى لا مجال لإكراهه على الدين. فالرشد بيٌن والغي بيٌن.
قدرة الله تعالى في الكون (دلائل احياء الموتى):من الآية (258 – 261) جاءت في ثلاث قصص:
وفي القصص الثلاث تأكيد على قدرة الله تعالى وأنه (لآ اله إلا هو) فكيف لا نقبل بتنفيذ المنهج او نكون مسؤولين عن الارض بعدما أرانا الله تعالى قدرته في الكون؟
وهو آخر جزء من المنهج وفيه حملة شديدة على جريمة الربا التي تهدد كيان المحتمع وتقوض بنيانه وحملت على المرابين باعلان الحرب من الله تعالى ورسوله على كل من يتعامل بالربا او يقدم عليه. وعرض للمنهج البديل فالاسلام لا ينهى عن أمر بدون ان يقدم البديل الحلال. وقد جاءت آيات الربا بين آيات الانفاق لتؤكد معنى وجود المنهج البديل للمال والرزق الحلال.
الخاتمة: وهذه أروع آيات السورة (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) آية 285 فالتكاليف كثيرة والتعاليم والمنهج شاق وثقيل فكان لا بد من ان تأتي آية الدعاء لله تعالى حتى يعيننا على أداء وتنفيذ هذا المنهج (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) آية 286
اي أعنا يا ربنا على تنفيذ المنهج لأنه سيوجد اعداء يمنعوننا من ذلك ولن نقدر على تطبيق المنهج بغير معونة الله. واشتملت الخاتمة بتوجيه المؤمنين الى التوبة والانابة والتضرع الى الله عزّ وجلّ برفع الأغلال والآصار وطلب النصرة على الكفار والدعاء لما فيه سعادة الدارين (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وقد ختمت السورة بدعاء المؤمنين كما بدأت بأوصاف المؤمنين وبهذا يلتئم شمل السورة أفضل التئام فسبحان الله العلي العظيم.
خلاصة: نحن مسؤولون عن الارض والمنهج كامل وعلينا ان ندخل في السلم كافة والمنهج له إطار: طاعة الله وتميز وتقوى. اما عناصر المنهج فهي: تشريع جنائي، مواريث، إنفاق، جهاد، حج، أحكام صيام، تكاليف وتعاليم كثيرة فلا بد أن نستعين بالله تعالى على أدائها لنكون أهلا للاستخلاف في الارض ولا نقع في أخطاء الامم السابقة.